كتبت:-فيروز سيد.
يعد "أبو فهر محمود محمد شاكر" رحمه الله قمة من قمم العربية، وعلم من أعلامها، والحديث عنه إنما هو حديث عن تاريخ هذه الأمة العربية، عقيدة ولغة وفكراً ورجالاً، وهو من أسرة أبي علياء الحسينية، في جرجا، بصعيد مصر، ولد في الإسكندرية في ليلة العاشر من المحرم سنة 1327 هـ / 1 فبراير سنة 1909 م، وانتقل إلى القاهرة في نفس العام مع والده إذ عُيّن والده وكيلا للجامع الأزهر، وكان قبل ذلك شيخا لعلماء الأسكندرية.
نشأ "شاكر" في بيئة متدينة، إذ كان أبوه كبيرا لعلماء الأسكندرية، ثم وكيلا للجامع الأزهر، ولم يتلق إخوته تعليما مدنيا.
أما هو فقد كان أصغر إخوته، وانصرف إلى التعليم المدني، فتلقى أولي مراحل تعليمه في مدرسة "الوالدة أم عباس" في القاهرة سنة "1916م "ثم بعد ثورة 1919 إلى مدرسة "القربية" بدرب الجماميز وهناك تأثر كثيرا بدروس الإنجليزية لاهتمامهم بها ولكونها جديدة عليه.
ونستنبط مراحل الشعر في حياته، من صغره، حتي وفاته، فنري أنه كان يقضي أوقاتا كثيرة في الجامع الأزهر فقد سمع من الشعر وهو لا يدري ما الشعر!! .
والجدير بالذكر أنه حفظ ديوان المتنبي كاملا في تلك الفترة، وفي سنة 1921م، دخل المدرسة الخديوية الثانوية ليلتحق بالقسم العلمي، ويتعلق بدراسة الرياضيات، وبعد اجتياز الثانوية، ورغم حبه للرياضيات، وإجادته للإنجليزية. فضل أن يلتحق بكلية الآداب قسم "اللغة العربية" لما شعر به من أهمية «الكلمة» في تاريخ أمته قديما، فلا بد أن يكون لها الدور الأكبر في مستقبلها .
وقد استمع "شاكر" في الجامعة لمحاضرات طه حسين عن الشعر الجاهلي وهى التي عرفت بكتاب «في الشعر الجاهلي»، وكم كانت صدمته حين ادعى طه حسين أن الشعر الجاهلي منتحل وأنه كذب ملفق لم يقله أمثال، امرئ القيس، وزهير، وإنما ابتدعه الرواة في العصر الإسلامي، وضاعف من شدة هذه الصدمة أن ما سمعه من المحاضر الكبير سبق له أن اطلع عليه بحذافيره في مجلة استشراقية في مقال بها للمستشرق الإنجليزي "مرجليوث" .
تولد عن شعور "محمود شاكر" بالعجز عن مواجهة التحدي خيبة أمل كبيرة فترك الجامعة غير آسف عليها، وهو في السنة الثانية لأنه لم يعد يثق بها، ولم تفلح المحاولات التي بذلها أساتذته وأهله في إقناعه بالرجوع، وسافر إلى "جدة" سنة 1928م مهاجرا، وأنشأ هناك بناء على طلب، الملك عبد العزيز آل سعود، وهي مدرسة جدة السعودية الابتدائية عمل مديرا لها، حتى استدعاه والده الشيخ فعاد إلى القاهرة سنة 1929م .
بعد عودته إلي القاهرة، واتصل بأعلام عصره من أمثال، أحمد تيمور، وأحمد زكي باشا، والخضر حسين، ومصطفى صادق الرافعي، وعباس محمود العقاد الذي ارتبط بصداقة خاصة معه.
ويقرأ التراث فيقول: «وشيئا فشيئا انفتح لي الباب على مصراعيه فرأيت عجبا من العجب، وعثرت يومئذ على فيض غزير من مساجلات صامتة خفية كالهمس، ومساجلات ناطقة جهيرة الصوت، غير أن جميعها إبانة صادقة عن الأنفس والعقول».
لم يكن شاكر معروفا بين الناس قبل تأليفه كتابه «المتنبي» الذي أثار ضجة كبيرة بمنهجه المبتكر وأسلوبه الجديد في البحث، وهو يعد علامة فارقة في الدرس الأدبي نقلته من الثرثرة المسترخية إلى البحث الجاد، والعجيب أن شاكر الذي ألف هذا الكتاب سنة 1936 ولم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره.
العجيب أن المديح الشدي لم يعجبه لأنه يرى أن كتابه لا يستحق كل ذلك، حتى إنه رأى أن النقد الموجه لكتابه كان نقدا على غير أصول علمية،وقال في حوار له مع د. نجم عبد الكريم: «لم أجد كاتبا إلى هذا اليوم قام بنقد هذا الكتاب نقدا صحيحا أو فهم طريقة ما كتبت. فليس هناك من نقد الكتاب كما ينبغي أن ينقد.. نقده الدكتور طه حسين في كتابه مع المتنبي نقدا لا أستطيع أن أعده نقدا في الحقيقة، لأنه لا أصل له».
يعد "شاكر" على رأس قائمة محققي التراث العربي، وأطلق عليه العقاد المحقق الفنان، وإنجازاته في هذا المجال كثيرة، وهي عنوان على الدقة والإتقان، ومن أشهر الكتب التي حققها: تفسير الطبري"16 جزءا"، و طبقات فحول الشعراء "مجلدان"، وتهذيب الآثار للطبري "6 مجلدات" .
خاض معركتين ضخمتين أولاهما مع طه حسين والأخرى مع، لويس عوض، كانتا من أبرز معالم حياته الأدبية والفكرية بسبب شاعرين كبيرين من شعراء العربية هما " المتنبي والمعري" .
وقد صدر كتاب "محمود شاكر" عن المتنبي عام 1936، بيد أن كتاب د. طه حسين مع المتنبي صدر عام 1938، وعلى الرغم من أن طه حسين نقد في كتابه كتاب شاكر إلا أنه لم يستطع أن يمنع نفسه من أن يسلك سبيلاً يقلد فيها محمود شاكر.
وأما كتبه فهي كلها ثمينة نفيسة لأن لدي "محمود شاكر" العديد من الكتب و المؤلفات والتحقيقات، منها :- أباطيل وأسمار، ونمط صعب ونمط مخيف، وبرنامج طبقات فحول الشعراء، ومداخل إعجاز القرآن، وقضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام، و ديوان شعر، اعصفي يا رياح، ودلائل الإعجاز للجرجاني، و أسرار البلاغة لعبدالقاهر الجرجاني، إمتاع الأسماع للمقريزي ، الجزء الأول، وطبقات فحول الشعراء للجمحي، وتحقيق تفسير وتهذيب اﻵثار للطبري، والوحشيات لأبي تمام .
وأما مقالاته الثمينة فقد جمعت ولله الحمد قريباً بعنوان (جمهرة مقالات محمود محمد شاكر) جمعها تلميذه عادل جمال في مجلدين كبيرين وطبعتها دار الخانجي.
وكثير من العلماء يعترفوا بهذا العلامة، ونأخذ مقطفات منهم، الدكتور محمود الطناحي، رئيس قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة حلوان: «إن محمود شاكر قد رزق عقل الشافعي، وعبقرية الخليل، ولسان ابن حزم، وشجاعة ابن تيمية، وبهذه الأمور الأربعة مجتمعة حصَّل من المعارف والعلوم العربية ما لم يحصله أحد من أبناء جيله».
ولتكن شهادة الكاتب القبطي وديع فلسطين، عضو مجمع اللغة العربية بدمشق وعمّان- خاتمة الأقوال: «أرشح محمود محمد شاكر للجائزة التقديرية، لأن هذا العالم الفذ قد وقف كل عمره على الحفاظ على تراث الضاد، وكأنه ديدبان شاكي السلاح يذب عن حياض الضاد كل متجهم (لعلها: متهجم)، أو متحرش، أو متطاول، وأتصور بعين الخيال أن محمود شاكر يقيم في قلعة حصينة في داخل أسوارها كل مقدسات الضاد»
فنال "محمود شاكر" جائزة الدولة التقديرية في الأدب سنة 1981م، ثم جائزة الملك فيصل في الأدب العربي عام 1984م، وفي أثناء ذلك اختير عضوا في مجمع اللغة العربية بدمشق، ثم بالقاهرة.
وبعد رحلة حياة عريضة رحل "أبو فهر" شيخ العربية وإمام المحققين في الساعة الخامسة من عصر الخميس الموافق 3 من ربيع الآخر عام 1418هـ "6 من أغسطس 1997م" ولبى نداء ربه .